سورة الروم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)}
لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين» وقد ذكرنا معناه، وقوله: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون قوله: {مِنَ الله} متعلقاً بقوله: {يَأْتِىَ} والثاني: أن يكون المراد {لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي الله لا يرد وغيره عاجز عن رده فلابد من وقوعه {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون. ثم أشار إلى التفرق بقوله: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالحا} ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضاً للمكلف عليه، وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، ووجه آخر: وهو أن الكفر قسمان: أحدهما: فعل وهو الإشراك والقول به، والثاني: ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لابد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشيء منه لابد منه.
المسألة الثانية: قال: {فَعَلَيْهِ} فوحد الكناية وقال: {فَلأَنفُسِهِمْ} جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة: قال: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ولم يبين وقال في المؤمن {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} تحقيقاً لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة، وعند غيره أشار إليه إشارة.


{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح، وهو الجزاء الذي يجازيه به الله والملك إذا كان كبيراً كريماً، ووعد عبداً من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله: {مِن فَضْلِهِ} يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب، وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته، وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلاناً كيف يكون سروره.
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم: 44] وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال: {ليجزي الذين آمنوا} ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} لأن قوله: {مَن كَفَرَ} في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله: {مَّنْ عَمِلَ صالحا} لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهاراً للكرم والرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة، فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه، ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة، وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالاً وهو قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} [الروم: 14، 15] قدم المؤمن على الكافر، وهاهنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضاً قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} [الروم: 12] فذكر الكافر وإبلاسه، ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] فكان ذكر المؤمن وحده لابد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله: {يُبْلِسُ المجرمون} وقوله في حق المؤمن: {فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ}.


{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}
قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات} لما ذكر أن ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح، لما ذكرنا غير مرة أن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً، ويذكر لأضراره سبباً لئلا يتوهم به الظلم فقال: {يُرْسِلَ الرياح مبشرات} قيل بالمطر كما قال تعالى: {بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] أي قبل المطر ويمكن أن يقال مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد.
ثم قال تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} عطف على ما ذكرنا، أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} بالمطر، وقد ذكرنا أن الإذاقة تقال في القليل، ولما كان أمر الدنيا قليلاً وراحتها نزر قال: {وَلِيُذِيقَكُمْ}، وأما في الآخرة فيرزقهم ويوسع عليهم ويديم لهم {وَلِتَجْرِىَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تُشْرِكُونَ} لما أسند الفعل إلى الفلك عقبه بقوله: {بِأَمْرِهِ} أي الفعل ظاهراً عليه ولكنه بأمر الله، ولذلك لما قال: {وَلِتَبْتَغُواْ} مسنداً إلى العباد ذكر بعده {مِن فَضْلِهِ} أي لا استقلال لشيء بشيء وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الترتيب فنقول في الرياح فوائد، منها إصلاح الهواء، ومنها إثارة السحاب، ومنها جريان الفلك بها فقال: {مبشرات} بإصلاح الهواء فإن إصلاح الهواء يوجد من نفس الهبوب ثم الأمطار بعده، ثم جريان الفلك فإنه موقوف على اختبار من الآدمي بإصلاح السفن وإلقائها على البحر ثم ابتغاء الفضل بركوبها.
المسألة الثانية: قال في قوله تعالى: {ظَهَرَ الفساد... لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} [الروم: 41] وقال هاهنا {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} فخاطب هاهنا تشريفاً ولأن رحمته قريباً من المحسنين فالمحسن قريب فيخاطب والمسيء بعيد فلم يخاطبهم، وأيضاً قال هناك بعض الذي علموا وقال هاهنا {مّن رَّحْمَتِهِ} فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته وفيه معنيان: أحدهما: ما ذكرنا أن الكريم لا يذكر لإحسانه ورحمته عوضاً، وإن وجد فلا يقول أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول هذا لك مني.
وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي وثانيهما: أن ما يكون بسبب فعل العبد قليل، فلو قال أرسلت الرياح بسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال: {مّن رَّحْمَتِهِ} كان غاية البشارة، ومعنى ثالث وهو أنه لو قال بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال بما فعلتم ينبئ عن نقصان عقابهم وهو كذلك.
المسألة الثالثة: قال هناك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقال هاهنا {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قالوا وإشارة إلى أن توفيقهم للشكر من النعم فعطف على النعم.
المسألة الرابعة: إنما أخر هذه الآية لأن في الآيات التي قد سبق ذكرها قلنا إنه ذكر من كل باب آيتين فذكر من المنذرات {يُرِيكُمُ البرق} والحادث في الجو في أكثر الأمر نار وريح فذكر الرياح هاهنا تذكيراً وتقريراً للدلائل، ولما كانت الريح فيها فائدة غير المطر وليس في البرق فائدة إن لم يكن مطر ذكر هناك خوفاً وطمعاً، أي قد يكون وقد لا يكون وذكر هاهنا {مبشرات} لأن تعديل الهواء أو تصفيته بالريح أمر لازم، وحكمه به حكم جازم.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14